الإعلان والوحي والاستنارة … جوزيف أنطون

on

تبدأ دائمًا القصة من الله الأول والآخر. فكيف يصل إلينا الله بفكره؟ وكيف يُعلن لنا عن ذاته هي مهمته هو التي وحده يستطيع إنجازها.وعن ذلك يقول بافنيك “إن صح أنه من الممكن للإنسان أن يعرف الله, فهذه الحقيقة تفترض أن الله قد اختار من جانبه أن يعرفه الإنسان بطريقة أو بآخرى”[1] فمن البدء والله يُعلن للبشرية عن ذاته بأنواع وطرق كثيرة. ويمكن تعريف الإعلان كالآتي: أنه فعل الله الذي على أساسه يكشف عن ذاته ].

ونجد في الكلمة المقدسة أن الله من البدء أعلن للبشرية عن نفسه من خلال إعلان عام طبيعي. فالسماء تتكلم عن مجد الله والفلك يخبر بصنعة يده (مز19: 1), فمن خلال الطبيعة يمكن للإنسان أن يعرف عن قدرة الله الأزلية وأيضًا عن لاهوته (رو1: 18-21). وليس الطبيعة لكن أيضًا الله يعلن بشكل عام من خلال ضمير الإنسان (رو2: 14-15).

الإعلان العام هو إعلان غير كاف, فمع أنه يشهد ويعلن عن الله ولاهوته وقدرته, إلا أنه لا يمكن أن يخلصنا بل فقط هو يدين البشرية (لاحظ القرينة في رو1 و رو2). ولكن الله أعلن إعلان آخر كاف وشامل به نعرف الله بصورة أكثر وضوحًا وبه نخلص. وذروة إعلان الله الخاص جاءت في ابنه المسيح. فالمسيح هو من أعلن لنا عن الآب (يو1: 18), وإعلان الله في المسيح هو الإعلان النهائي الذي لا ننتظر بعده إعلان يخبرنا عن الله بشكل آخر (عب1: 1-3).

من قبل تجسد المسيح والله يُعلن بصورة خاصة, وهذا الإعلان الخاص – حتى من قبل مجيء المسيح – متمثل بصورته التدريجية في الكتب المقدسة, التي اكتمل الإعلان فيها باكتمال الإعلان بمجيء الابن. ويشدد ثيسن أن الرأي المسيحي يؤكد دائمًا أن إعلان الله له تجسيد مكتوب, وهذا التجسيد في الأسفار[3].

وإعلان الله هذا لكي يتجسد بصورة مكتوبة, أوحى الله لرجاله القديسين بإعلاناته لكي يدونوها في الأسفار المقدسة. فالوحي هو إعلان الله المكتوب بواسطة رجاله القديسين المسوقين بروحه القدوس.

والإيمان المسيحي المستقيم يؤمن أن الوحي هو وحي لفظي تام معصوم عصمة مطلقة ومنزه عن الكذب[4]. نجد في (2تي3: 16) أن كل الكتاب هو موحى θεόπνευστος  والكلمة هنا بمعنى أن الله قد تنفسه. فالكتاب المقدس وحي إلهي أي نسمات الله.

ونجد في الكتاب المقدس الكثير من النصوص التي تؤكد أن أن وحي الله يشمل لا الأفكار فقط بل الألفاظ أيضًا. ففي (غل3: 16) يبرهن بولس على ما يستشهد به من قصة إبراهيم معتمدًا على لفظ “نسلك” بالمفرد لا الجمع, فقد عَلِم بولس أن اللفظ المستخدم في سفر التكوين ليس نتاج بشري فقط, بل هو لفظ موحى به. وهذا ما يؤكده الله لأرمياء (أر1: 9), ويؤكده بولس في (1كو2: 3), وشدد عليه الرب يسوع نفسه في (مت5: 18) أن حفظه يتضمن أصغر حرف عبري “י“, والنقطة كالفارقة بين حرفين “ח” و “ת“.

فالله تنسم إعلانه أي أوحى به لكي يُكتب ويُحفظ في صورة كتابة, وتلك الإعلانات دونت من خلال رجاله القديسين. وهذا الوحي – الإعلان المكتوب – هو وحي يتضمن الفكرة واللفظ. فالوحي هو إعلان كُتب بواسطة رسل المسيح وأنبياء الله.

وكما نقرأ في (2بط1: 21) أن رجال الله وهم يكتبوا الوحي كانوا مسوقين – الكلمة بمعنى محمولين – من الروح القدس. فالوحي هو مسئولية الله بنسبة 100 % وأيضًا الإنسان بنسبة 100 %. وهو وحي لفظي تام لأن كل ما كتب به هو وحي وليس أجزاء فيه فقط, ويشرح جيمس أنس ذلك فيقول: “الوحي يُطلق على كل أجزائه, فكل أسفاره موحي بها في كل عباراته بدون استثناء, وعل كل ما تحتويه, فلا يقتصر على الحقائق الأخلاقية والدينية, بل يشمل كل ما ذًكر فيه من الأمور العلمية والتاريخية والجغرافية”[5].

وهذا الوحي اللفظي التام هو وحي معصوم عصمة مطلقة عن الخطأ, فهو لم يتعرض للخطأ وذلك لأن الله هو الكاتب الأساسي. ولأنه لا يمكن أن يوحي بالزيف, فإن كلمته صادقة وموثوق بها تمامًا[6]. وأيضًا منزه عن الكذب فالله لا يقدم لنا أي معلومة من شأنها تضليلها. والكتاب يشهد عن أمانة الله وعدم كذبه (تي1: 2), وعن صدق كلمته وخلوها من الشوائب والتضليل (تي3: 8؛ رؤ21: 5؛ مز19: 7-8) فهو بالفعل كلام الحق (مز119: 43).

وفي طريق توصيل الكتاب المقدس الإعلان الإلهي الكامل إلى الإنسان. بعدما أعلن الله وكشف الحاجز عن نفسه من خلال الإعلان العام, وأعطى للإنسان إعلان خاص متمثل في ابنه المسيح, دون الله إعلاناته في صورة أسفار مكتوبة بواسطة رجاله القديسين المسوقين بروحه الأقدس. وعندما يصل الكتاب المقدس إلى الأيدي البشرية يحتاج الإنسان إلى وقت كاف لدراسته وتفسيره, وبعمل الروح القدس تتم الاستناره التي من خلالها نفهم ما تم قراءته وتفسيره. لذل

فالاستنارة هي العملية التي بموجبها ينير الله ذهن الإنسان حتى يتثنى له أن يفهم الإعلان الإلهي, والتفسير هو إدراك الحق واستيعابه من خلال الاجتهاد والدراسة. والتفسير الكتابي هو أمر إلهي (2بط3: 16-18) حتى يعطينا الله الاستنارة لفهم المكتوب (أف1: 18).

وتلخيصًا فالكتب المقدسة ليست هي الإعلان نفسه, بل هي وصف وتدوين نعرف منه الإعلان[8]. فالله خبر وأعلن عن ذاته بطرق كثيرة, ودُونَ هذا الإعلان في أسفار مكتوبة من خلال الوحي الإلهي اللفظي التام, فأصبح هناك إعلان موحى به مكتوب, نستطيع تفسيره بمساعدة الروح القدس ومن خلال المكتوب نفسه, ونفهمه بواسطة استنارة الروح القدس لنا

[1] هيرمان بافنيك, بين العقل والإيمان, الجزء الأول (لبنان: مطبوعات الشرق الأوسط, 1990) 27..

[3] هنري ثيسن, محاضرات في علم اللاهوت النظامي (القاهرة: دار الثقافة, 1987) 77.

[4] تشارلز رايري, اللاهوت الأساسي: دليل نظامي مبسط لفهم لبحق الكتابي (شيكاغو: مطابع مودي, 1999) 75.

[5] جيمس أنس, علم اللاهوت النظامي (القاهرة: قصر الدوبارة الإنجيلية, 1999) 73.

[6] أر سي سبرول, حقائق وأساسيات الإيمان المسيحي (القاهرة: مكتبة المنار, 2000) 17.

[8] هيرمان بافنيك, مرجع سابق, 123.

imgres

أضف تعليق