الوحي اللفظي التام …. جوزيف أنطون

on

          كما يُعلم الكتاب عن مصدر الوحي, يُعلم أيضًا عن كيفيته, فالوحي الإلهي تنسمات الله, هو وحي مصدره الله. والوحي الإلهي – كما نرى في النصوص المقدسة – هو وحي يشمل الألفاظ والمعاني, وهو وحي تام مكتمل.

أولًا الوحي اللفظي التام:

          يهاجم الإيمان بوحي اللفظ في المسيحية هجومًا حادًا في الأوساط المختلفة, وللأسف فكل كنيسة لها معتقدها الخاص بخصوص الوحي. وقبل أن يقوم الباحث بشرح الأساس الكتابي للوحي اللفظي, سيقوم بعرض بعض النظريات المختلفة للوحي المتبعة اليوم بين الكثير من المسيحيين.

  1. وحي المعنى: وأكثر المسيحيين اليوم ينتمون لمثل هذا الفكر, ويسمى أيضًا بوحي الأفكار, وهو باختصار أن الله أوحى لكتبة النصوص المقدسة بفكرة معينة, أو بمعنى مسيحي معين, وترك لهم الحرية الكاملة بدون أي هيمنة أو سيطرة على الألفاظ. فالفكرة مصدرها الله, واللفظ مصدره الإنسان. ويشكك القس سامح موريس في أن يكون الوحي لفظي, مؤيدًا كلامه بقول الرب يسوع اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ (يو6: 63). وأنه لو كان الوحي لفظي لعبدنا الوحي وتركنا الله[1].
  • الوحي الجزئي: وهي نظرية تؤيد أن الكتاب المقدس معصوم في أمور الإيمان والممارسة والتطبيق, وليس في الأمور التاريخية والعلمية[2]. وهو فكر ينادي بأن الكتاب المقدس هو كتاب بشري يحتوي على كلمة الله. فمن الكلمة التي بين أيدينا أجزاء هامة يجب علينا اعتبارها كلمة مقدسة, وأجزاء آخرى ماهي إلا كم من الأساطير البشرية التي لا حاجة لها, فلذلك تطرف البعض بأن يقوم بأزالة العديد من النصوص الكتابية من الكلمة المقدسة لاعتباره أياها أجزاء غير موحى بها.
  • نظرية كارل بارت: يُعد بارت واحد من أهم من كتب في اللاهوت في القرن العشرين, وأكثرهم غزارة في الكتابة. بدأ حياته يتبع لنهج الحركة الليبرالية ثم بعد الحرب العالمية الأولى تحول فكره وأنشأ مايسمى بالأرثوذكسية الحديثة neo – orthodoxy الذي يعتبر هو, وديتريتش بنهوفر أعظم روادها.

أثر بارت في العديد من اللاهوتيين, وخصوصًا فيما له علاقة بنظريته عن الوحي. يشرح جوناثان هيل إيمان بارت بالوحي على أنه يؤمن أن الكتاب المقدس هو كلمة الله حقًا, ولكن بطريقة ثانوية فالكتاب المقدس هو أداة نقل كلمة الله وليس بديلًا عنها, ولا يهم ظروف الكتابة ولا الأمور التاريخية للنص الكتابي[3]. فبالنسبة لكارل بارت يُصبح الوحي وحيًا كما يتفاعل مع الإنسان, فعندما يكون الكتاب المقدس بين يدي الإنسان هو كتاب أكثر قيمة عن عندما يكون الكتاب على مقعد.

ويؤكد رايري على ذلك في شرحه للإيمان البارتي عن الوحي فيقول: من الواضح من كلام بارت أن النص نتاج بشري مليء بالأخطاء, لكنه يمكن أن يصبح كلمة الله عندما يستند بنا… فالكتاب المقدس يُصبح كلمة الله عندما يتحدث المسيح إلينا[4]. فالافتراض الأساسي للاهوت بارت أن الإنسان فوق الوحي ويمكن أن نفسر أي شيء بعيدًا عن أحداثه ليصبح وحيًا بين أيدينا.

  • الوحي الإملائي: أي أن الله استخدم البشر كألات دون أي مشاركة لهم في عملية الوحي, بأن قام بأعطائهم الكلمات عن طريق الإملاء, وحجب أي تدخل بشري في الوحي.

هناك العديد من النظريات عن الوحي غير الكتابية تتعدى الأربع نظريات سالفة الذكر, إلا أن النظريات السابقة هي الأكثر انتشارًا خصوصًا في المجتمع العربي. ولكن الدارس للكلمة المقدسة يجد أن الكتاب يُعلن بما لا يترك مجالًا للشك كون الوحي الإلهي هو وحيًا لفظيًا يشمل المعنى واللفظ, لا المعنى فقط كما يزعم أصحاب مذهب الأفكار. ويجده وحيًا يشترك فيه الله والإنسان وليس كما يعتقد أصحاب نظرية الوحي الإملائي, وهذا الاشتراك لا يمكن أن يكون بنسب متفاوتة أو حتى 50% لكلا الطرفين كما يعتقد أصحاب نظرية الوحي الجزئي, بل الله مشترك بنشبة 100% والإنسان بنسبة 100%.

ويُعرف موريس تواضروس الوحي على أنه نسمة من الله نفخها في قلوب الكُتاب الذين اختارهم لهذا الغرض, فأصبحوا تحت سلطان روح الله في كل ماكتبوه. دون إلغاء شخصياتهم ولغتهم وثقافتهم[5]. فالله الذي أوحى لكتابه بما يكتبوه, أوحى لهم أيضًا بالألفاظ التي يستخدموها.

ويؤكد ثيسن على وحي الألفاظ فيقول: يمتد الوحي ليشمل الألفاظ والكلمات, وليس فقط الأفكار, فهو وحي مطلق تام ولفظي حرفي لأنه يشمل كل حرف وكلمة[6]. وفي الكتاب المقدس العديد من النصوص التي تُدعم كون الوحي لفظي وليس وحي أفكار كما زعم البعض منها:

  • وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. (غل3: 16), في النص السابق يقدم بولس حجته الأساسية على كون وعد الله لإبراهيم كان وعد عن المسيح, مستخدمًا للتدليل على جحته لفظ في المفرج بدلًا من الجمع, نسل وأنسال. فبولس يؤكد على أن إيمانه في تلك النقطة يعتمد على إيمانه بوحي الله لموسى وهو يكتب بلفظ نسل, فلو كان موسى كما يزعم أصحاب وحي أوحيى إليه بفكرة بدون لفظ, لما اعتمد بولس هنا في حجته على لفظ.
  • يؤكد برسوم ميخائيل على شمول الوحي معنى ولفظًا, مدللًا على هذا أن المسيح نفسه بنى تعليمه على ألفاظ الكتاب, مثل قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً (مت22: 43), وأيضًا إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللَّهِ وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ (يو10: 35)[7]. ففي النصين السابقين بنى المسيح حجته على لفظين, ” ربًا, آلهة” مما يدعم كون الوحي يشمل اللفظ كما المعنى.
  • قَدْ جَعَلْتُ كَلاَمِي فِي فَمِكَ. (أر1: 9), يتحدث الرب إلى أرميا ويذكر أن الكلمات التي يتكلم بها أرميا للشعب, هي كلمات جعلها الله في فمه. فالله أوحى لأرميا بنبوته ووضع كلمات هذه النبوة في فم أرميا.
  • فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. (مت5: 18). يشهد الرب يسوع للوحي اللفظي فيؤكد حفظه للحرف والنقطة التي كُتب بها الناموس (بالطبع في الكتابات نفسها وليس النُسخ منها). يشرح ر. ت. فرانس أن قصد المسيح بالحرف الواحد هو حرف اليوتا في العبرية أصغر الحروف, والنقطة الواحدة هي النقطة التي توضع فوق الحرف أو الخط الدقيق في أعلى الحرف أو أدناه[8].

أما عن كون الوحي إملائي ديناميكي لا دخل للبشر فيه, فهي نظرية لا يدعمها الكتاب المقدس. فالكتاب يُعلن أن الله استخدم رجاله في كتابة الوحي (2بط1: 21) لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. ولا يجب كما يفعل البعض أن نخلط بين إيماننا بالوحي اللفظي, والوحي الإملائي. فإن كنا نؤمن أن الله سيطر وهيمن بطريقة فريدة ومعجزية على كل لفظ بحيث يصبح هو ما يريده بنسبة 100 %, إلا أننا نؤمن أيضًا أنه بنفس الطريقة المعجزية الفريدة فكتبة الوحي كانوا يكتبون باستخدام مصطلحاتهم وثقافتهم الخاصة بنسبة 100%. وعند قولنا بأن الله والإنسان مشتركين مع حفظ السيادة التامة لله, فلا نقصد بهذا أيضًا أن يكون الوحي جزء منه مصدره إلهي وجزء آخر بشري يحتمل العبث والأخطاء كما يزعم مؤيدو نظرية الوحي الجزئي.

والهيمنة الإلهية والعناية الضابطة نجدها تمتد لتشمل حياة الأنبياء من المهد, بل حتى من قبل الوجود على الأرض. يقول الرب لأرميا قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ (أر1: 5) فعناية الله قصدت أن تكون ثقافة أرميا وحياته بهذا الشكل, حتى يكتب نبوته كما كتبها.

فالله يهيمن على حياة الكاتب وعلى استخدامه للألفاظ, ويسوقه الروح القدس ليكتب نبوته, فتصبح النبوة – إن جاز التعبير – عمل إلهي بشري مصدره الله.

وفكرة أن يكون هناك عمل مسئول عنه الله بنسبة 100% والإنسان بنسبة 100 %, هي فكرة كتابية نستطيع أن نجدها في نصوص كثيرة منها (2صمو 24: 1و 10) فالله هو من أهاج داود ليعد الشعب كما يشهد الوحي, وداود ضربه قلبه وندم لأنه مسئول كاملًا.

ثانيًا: الوحي تام:

وهذا الوحي اللفظي هو وحي لفظي تام, فليس هناك أجزاء موحى بها, وأجزاء آخرى غير موحى بها. ولا توجد فيه أجزاء أهم من غيرها. فنص مثل في (2تيم3: 16) كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ, ونص آخر مثل لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (2بط1: 21). كما شرحنا سابقًا هي نصوص تؤكد على كون الوحي وحي تام يشمل كل ما بين أيدينا اليوم من المكتوب.

وهناك مشكلة رعوية كبيرة تواجه مؤمنو الوحي الجزئي, وهو إيمانهم بأن الكتاب المقدس يحتوي على كلمة الله, فما هو المعيار الذي سوف يحدد أين كلمة الله بين طيات الورق الذي بين أيدينا؟ بكل تأكيد سيكون المعيار هو الإنسان. وهذا الإنسان هو إنسان فاسد يعيش في عالم ساقط لا يشتهي مالروح الله, وجسده يشتهي ضد روحه. فستكون دائمًا كلمة الله بالنسبة له ما تطرب أذنه وترطب قلبه.

والوحي البارتي – نسبة لكارل بارت – يواجه مشاكل كثيرة, فلا يمكن اعتبار الكلمة المقدسة المكتوبة مصدر ثانوي أو أنه مجرد أداة لنقل كلمة الله وليس هو كلمة الله.

 فهاهو الوحي الإلهي يشهد بأنه هو الأثبت والأدق وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ (1بط1: 20) وأن الكلمة المقدسة هي الوحيدة التي تستطيع أن تصل الشخص للإيمان بالمسيح وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. (2تيم 3: 15).

وهو تام كامل كل أجزاءه, لا حاجه لنا بعده إلى وحي آخر, أو لإعلان ما يأتي اليوم ليكمل الوحي الذي بين أيدينا, فها هو الرسول يقول في (عب1: 1-2) اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، 2كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ.

فنصوص كالتي أستخدمناها لدعم فكرة الوحي اللفظي التام تؤكد شهادة التعليم الكتابي لهذا الحق, وتدحض تعاليم ونظريات آخرى مثل كون الوحي إملائي, أو وحي معنى, أو جزئي.

[1] سامح موريس, ماهو الوحي؟, من حقك تفهم متاح على  http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=mVpREaLO8FI

[2] هنري ثيسن, محاضرات في علم اللاهوت النظامي (القاهرة: دار الثقافة. 1987) 113.

[3] جوناثان هيل, تاريخ الفكر المسيحي, (القاهرة: دار الكلمة, 2011) 284.

[4] رايري, 85.

[5] موريس تواضروس, دراسات في علم اللاهوت النظري (القاهرة: الكلية الإكليريكية, 2009) 267.

[6] ثيسن, 117.

[7] ميخائيل, 19.

[8] ر. ت. فرانس, التفسير الحديث للكتاب المقدس: إنجيل متى (القاهرة: دار الثقافة, 1990) 119.

imgres

أضف تعليق